واجهة الكتب دفتر سفر لمحمود الحرشاني
الذاكرة الحية أو شرف الاعتراف
بقلم حاتم النقاطي
أستاذ جامعي وناقد
إن الذين يعلرفون «محمود الحرشاني» يقدرون في شخصه حب أمرين لا ثالث لهما: الأدب والصحافة ذلك أنه لا يتحدث عن كرة القدم ولا على الثروة ولا يشتم لك أحد.
إن حديثه يوقظ في نفسك جانب العاطفة والخيال وتثقيف الناس ورهان الحلم. ولعل معرفتي بهذا الرجل انطلقت منذ منتصف التسعينات حيث كنا ايامها نستمتع سويا بقضاء العطل الصيفية بالمنستير وكنا مثل الان نتحدث في نفس المواضيع مع تغيير أركانها واحداثها.
وأزعم أن هذا الكتاب الجديد «دفتر سفر» لمحمود الحرشاني(1) كنت من أول المطلعين عليه وعلى رهانات صاحبه ذلك أنني شجعته على نشر بعض حكاياته لما فيها من اعتراف صريح وجرأة نادرة. إن هذا العمل هو كتاب الحديث عن الإعلام والمدن والامكنة والازمنة مثلما هو حديث الذات وأصداء الآخر. أو لعلي اقول إن هذا العمل هو فرصة جديدة للمثقفين للعودة لذواتهم بحثا عن افادة الآخر وبيان قيمة الاعترافات في تأسيس التوازن النفسي وتأكيد جمالية الموجود لبلوغ المنشود بصورة أشد نصاعة.
. الذاكرة أو شرف الاعتراف
إن الذاكرة هي حالة الميلاد حيث يعود الإنسان إلى اصله الأول ليتعرف على ما فاته ويقيم تجربته مع الزمان. هي مصارحة الذات لذاتها وألمها الباطني في معاناتها لإحداث ظن أنها رحلت إلى الابد غير انه سرعان ما يتذكرها فتعود إليه حاضرة. إنه يعيش ذاك الالم اللذيذ حيث تكون فيه الصورة جادة على الرغم من تغير ملامحها فما ابعد اليوم على الامس وما اقسى لحظات الزمان فهي تحفر كل شيء الوجه والقفا أيضا فتنعكس الاضاءة على تجاعيد الذات لتذكرنا أبدا بان الماضي لا يموت.
إنه اعتراف الصراحة ذاك الذي يضع فيه الكاتب نفسه فيتذكر مؤدبه وقريته والطوفان والعمل بالحضائر ونجاحه في السيزيام واشتغاله بالاذاعة الجهوية بقفصة ورحلاته لمدن قريبة بعيدة (بيروت، دبي، فاس، قفصة، لاهولم، غزّة..) هي عودة على بدء جرأة تحتاج الصراحة فكان الأدب هو حكايتها فيه الاعتراف طهارة وتناسلا للحقائق لبلوغ صفات الذات وخلق اشياء العالم. إنها البدايات حيث وفاة الوالدة والاشتغال بالحضائر والفيضانات والمؤدب والمدرسة.
هي الطفولة أو هي صراحة بطيبة الاعتراف بطيبة النشأة وصدقها.
«فجع الفتى في مطلع شبابه بوفاة والدته وهو مازال لم يبلغ العشرين من عمره، كان لوفاة والدته تأثير كبير على حياته. فقد كان متعلقا بوالدته كثيرا، فهو ابنها الوحيد والبكر. وجاءت وفاة والدته في سن فاصلة في حياته، في سن الثامنة عشرة، سن يخرج فيها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب»(2).
. المدن أو في بهجة النظر
هل نسطيع أن نكتب من غير تغيير للأمكنة؟ وهل تبلغ روعة المشهد باستبعاد الحركة والتغيير؟ وهل يبلغ الإنسان البهجة اذ غابت بداخله مغامرة اكتشاف الامكنة والازمنة؟
إن للمدن لذتها ذلك انها امكنة تطبع مخيلتنا وتحيل ذواتنا إلى كائنات تستفهم امكنتها فتحقق انسانيتها. إن المدن تعلمنا أن نكتشف ذواتنا قبل الدخول في فضاءاتها الرهينة حيث توجس المكان بحثا عن الانس واي متعة هي اذ غاب فيها ذاك الصدق الرائع مع الداخل-البدوي- والخارج الحضري.
إنه حوار ينطلق من مكان ريفي «سيدي علي بن عون» إلى بيروت يطوف حول «المقدس»، «مكة المكرمة»، ليخط حضوره ما بين لحظتين ممكتي الوجود والعدم. إن محمود الحرشاني يضع قارئه أمام مدن غير متكافئة القيمة فهناك الرائع فيها وهناك الاروع وفيها العريق وفيها المستحدث ولك الاختيار ما بين شرقها وغربها وما بين جنوبها وشمالها.
إنها مدن يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل حيث يصبح القارئ اسير استطاق رمزيات الامكنة. تتساوى كل المن –سيدي علي بن عون- قفصة- فاس- بيروت- الكويت- دبي... ذلك أن صاحبها يتجاوز الامكنة إلى ذاك المشرق خلفها ذاك الحلم.
«مدينة دبي مدينة عملاقة فكل بناياتها بنايات ذات طوابق ولا مكان للبنايات المتواضعة وفي الطريق قال لي الزميل عبد الفتاح صبري من مصر... أن هناك رغبة كبيرة لدى السكان لإقامة المباني الضخمة، وهم بدؤوا منذ مدة في عملية ردم جوانب من البحر لإقامة بنايت جديدة. يبدو أن الاماراتي بصفة عامة وطبيعة مدينة دبي بصفة خاصة تجعل ابناءها من عشاق الاشياء الضخمة والكبيرة»(3).
. الحلم رهان الكتابة
إن الكتابة لا تستطيع أن تتأسس خارج الرهانات، اذ في نفي الغايات يبتعد الإنسان عن مشروع بناء ذاته ولذلك كان الحلم هو المقصد فيه تسود الأنا ومنه ندخل للعالم.
ولعل المتأمل في العنوان «دفتر سفر أو ذكريات في بلاط صاحبة الجلالة» كتاب محمود الحرشاني يظفر برمز مكثف دلالي يتوج بسلطة لا غبار عليها: الملك والحكم والترحال ذاك هو النصيب والمراد لان القلم سيلانه في حبر الخيال مرجعه.
إننا مع صحفي يمسك جيدا بدفاتر ايامه ساعيا لبلوغ عالم آخر في الحياة لا خارجها اذ بسلطته لا بسلطة الآخر وجوده وكينونته. كذلك هو محمود الحرشاني: حالما بعالم أفضل تتغير فيه الامكنة والازمنة. إن الكتابة كمخيل تضع لقارئها فرصة التعرف عليهامن خلال كل حرف وكل كلمة وكل صورة اذ أن ضمير المتكلم طغى على رسم روح القص ذات تنسب لنفسها نسج حركة النص وروح تواصله وبناء احداثه.
«وصلت بيروت ليلا... وكنت ضمن وفد ثقافي اعلامي... وبالفعل تمّ توجيهنا إلى الجناح الملكي لنقضي فيه تلك الليلة وأشهد أن تلك الليلة كانت من أجمل ليالي العمر. فرغم أننا كنا في حالة ارهاق كبير من جراء طول السفرة وكنا في حاجة أكيدة إلى النوم. فقد كان يتردد على جناحنا بين الحين والآخر الأعوان من النزل ليطلبوا منا قضاء حاجاتنا، فمرة كانوا يأتوا باطباق الغلة ومرة بالشاي أو القهوة ومرة أخرى كان يطلب منا ما إذا كنا نريد أن نأكل وأي انواع الطعام نريد.
كنت أضحك أنا والزميل عبد السلام لصيلع وأمازحه قائلا:
«يا لهذه الليلة التي لا تنتهي»(4).
الهوامش:
(1). محمود الحرشاني؛ دفتر سفر في بلاط صاحبة الجلالة، منشورات مرآة الوسط 2009.
(2). نفس المرجع السابق؛ ص 08.
(3). نفس المرجع السابق؛ ص 59.
(4). نفس المرجع السابق؛ ص 48-49-50.