الطبيبة والأديبة الفلسطينية عبلة الفاري لـ"حوارات":
وطني تخبئه لي جدتي تحت وسادتها كل ليلة..
حوار:عبد الباسط خلف
هي كزهرة شقائق نعمان ترعرعت في أطراف سهل عرابة الفسيح والمجاور لجنين، أو هي كنحلة شرعت في رحلتها نحو بلاد تونس الخضراء والساحرة.
اختارت دراسة الطب، وعشقت السرد والأدب والقراءات وما جاورها.
تداوي أوجاع الناس، وتعالج نفسها بالنصوص والأحرف، تسرف في البحث عن نافذة تبوح لها بإحساسها المصاب بداء القراءة الإيجابي.
مُنعت من السفر لإكمال دراستها، فترة من الزمن، وعاشت عقداً من عمرها في القارة السمراء، وعادت قبل حفنة من الشهور إلى وطنها وإقحوانها.
نحاورها، ونستكشف دمجها بين الأدب والطب، ونتعرف على الفارق بين القلم وسماعة الطبيب، والعلاقة بين الصفحات الثقافية والتقارير الطبيبة، وتحدثنا عن الغربة والإحساس والوطن والمرأة وتونس ومشتقاتها.
-الأطباء ملائكة الرحمة و رواد البحث عن مكمن الداء. والأدباء ملائكة الأحاسيس المرهفة والصورة والخيال والتشبيهات، ما العلاقة برأيك بين الطب والأدب؟
هي علاقة الروح بالجسد، إذا انفصلا تتوقف الحياة لأن كلاهما يلتقيان عند ينبوع العطاء. بالطب أداوي جراح الجسد وآلامه، وبالأدب أداوي جراح الروح وأوجاعها وهي الأصعب.
الطب هو بيئة علمية غنية جدا بالأبدان الأدبي حيث يتم التكامل الطبيعي للشخصية، إذ التقاء العلم بالإبداع الأدبي يوصلنا إلى أقصى درجات الكمال، فأين الخطأ بأن أبدع صباحا في علاج المرضى، وعندما أعود للمنزل أقرأ الروايات وأعزف العود وأهيم في شرودي وأكتب القصص.
-لماذا انحزت إلى السرد لا الشعر؟
انحزت للسرد لأن الكتابة النثرية تحررني من قيود التفعيلة والتزامات السجع، لا أريد القول أن الشعر يأخذني نحو التصنع، لكنه حين تأتى الفكرة يسرح الخيال بعيدًا وراء السهول والجبال، ويحلق عاليا فوق الغيوم والهموم ملتحقا بأسراب القطى واليمام حيث لا حدود ولا قيود.
-يقولون الغربة تصنع الإحساس، هل هذا يندرج على عبلة الفاري؟
بالتأكيد، فأنا أركز في معظم كتاباتي على الإحساس لأن الإنسان لديه طاقة هائلة من المشاعر والأحاسيس والشحنات المختلفة والمؤثرة سلبًا وإيجابًا في حياتنا من غضب و ألم وحزن وفرح ودموع .
فالفلسفة توصل باحثها إلى التصوف أو الإلحاد، وكذا الغربة تصقل الإحساس وتنقي القيم في أعماقنا وتوصل إلى الإنسان الملاك حيث النقاء والصفاء أو إلى الإنسان الملطخ بتشوهات المادة وشوائب الحياة.
-في تونس حالة ثقافية ثرية، كيف أثر ذلك عليك؟
تونس هي ملتقى الحضارات والثقافات، و أتاح ذلك لي التعرف إلى الأدب المغربي والأندلسي والأفريقي والأوروبي، وبالطبع تأثرت بذلك وامتزجت كتاباتي بهذا الطابع، فالكاتب هو ابن بيئته.
لم يتسن لي بعد قراءة آخر ما خطت أقلام أدبائنا، ولكن في تونس هناك ميول إلى القصة القصيرة الرومانسية الأقرب إلى الخاطرة بحيث انه كلما ازداد قصر وقت القصة كلما ازداد إبداعها.
-أين هو وطن عبلة؟
وطني تخبئه لي جدتي تحت وسادتها كل ليله قبل أن أنام، أنا كغادة السمان من مدينة لا ادري أين هي المهم أن أهلها يتحاورون بلغتي التي أحب.
هل ثمة فرق بين الطبيب الأديب و الطبيب المداوي؟
الطبيب المداوي هو الطبيب ذاته من عهد ابقراط وحتى الآن، وان اختلفت وسائل العلاج فهو كائن عادي. أما الطبيب –الأديب فهو غير عادي، ولا أريد التحدث أكثر كي لا يفسر ذلك بأنه دعاية لعيادتي التي لم أفتتحها بعد .
لا أستطيع أن أتحدث عن نفسي فأنا موجودة بين اسطر كتاباتي، تستطيع أن تدرك ما هو الطبيب الأديب من خلال القصص التي كتبتها.
-هل اكتشف أحد أدبك وسردك في سن مبكرة؟
بالطبع لا، فأنا ككل الفتيات خبأت خواطري في دفتر أخفيته جيدا كي لا يراه أحد. و أول ما رأى النور من كتاباتي كان وأنا في العشرين من عمري، على مقاعد الجامعة.
- -قلت إنك فزت في جوائز أدبية على مستوى مدن تونسية، هل هذا الفوز منحك التشجيع، وهل دائما المسابقات تنتصر للأفضل؟
في عام 1995 فزت في الجائزة الأولى للقصة القصيرة في مدينة صفاقس، وجائزة الملتقى الوطني للأدباء الشبان على مستوى الجمهورية برعاية مجلة مرآة الوسط في عام 1997،حيث كانت تونس عاصمة ثقافية لليونسكو، كذلك جائزة الإبداع الأدبي لعام 2000 على مستوى الجنوب التونسي وغير ذلك.
الفوز يعطينا دفعة للتواصل، ويحثنا للمزيد من العطاء، ويتيح لنا فرصة التعرف إلى جديد الإبداع والمبدعين. لكن المنافسات ولجان التحكيم لا تنتصر دائما للأفضل، والأديب لا يقيم بجائزة أو شهادة تقدير، وأنت تعرف أن معظم الأدباء العرب ينصفون ويولدون بعد وفاتهم.
-أن يفوز الأديب في غربته ويغمر في منفاه، هل هذا يبعث على الإحباط؟
الغربة ليس بالضرورة الابتعاد عن الوطن، إذ قد يعيش الإنسان حالة اغتراب بين أهله. وهذا يعود للأديب نفسه، فهناك أدباء كنوار الربيع سرعان ما يجن ويزهر ثم يجف و يتلاشى للابد. وهناك أدباء كشجرة الزيتون جذورها في الأرض راسخة عميقة وأغصانها عاليًا في السماء تعطي ولا تأبه للعواصف، ما دامت جذورها قوية و تربتها صالحة.
لا يوجد ما يدعو للإحباط لأنه لدينا العديد من الظواهر الناجحة كمحمود درويش و نزار قباني وأدباء رابطة أبلو والرابطة القلمية وغيرهم.
--يخشى البعض أن تنحصر حركة القراءة بين الأدباء( بمعنى أن يقرأ الأدباء لبعضهم بعضا) هل أنت من هؤلاء المتشائمين؟
قرأت الحكمة عند نيتشة وهيجل وشوبنهاور وديكارت وابن خلدون وغيرهم، والعلوم الدينية للديانات الكبرى، والعلاج النفسي لسجموند فرويد وتلاميذه، ورحلات ابن بطوطة وكولمبو وجاما وكوبر نيكوس، وحفظت مقامات الموسيقى ابتداء من الحجاز حتى الصبى، وغير ذلك في مختلف العلوم الإنسانية.
فالقراءة الأدبية هي جزء بسيط من الثقافة ولا بد للأديب ان يبحر في عالم المعرفة وينهل من ينابيعها العذبة، فالقراءة تصقل الموهبة وتثري الإبداع وتنير الخيال ولا أرى أي شيء يدعو للتشاؤم
-عرفنا انك منعت من السفر، هل انعكس ذلك الحظر في نصوصك الأدبية؟
لا تدري كم هو مر وقاتل مليون مرة أن تسير في طريق طويل، وفجأة تصطدم بجدار عظيم يربط الأرض بالسماء، ويفصلك عن كل عالمك وحلمك وكل شيء جميل حييت وسعيت لأجله، فتقف مقهورًا لا حول لك ولا قوة، تغضب وتصرخ فلا يسمعك سوى أشواك الدرب وحجارة الرصيف.
بالطبع انعكس ذلك إيجابا في كتاباتي إذ يقول نيتشة:"لا شيء يجعلنا عظماء سوى ألم عظيم"، والأدب المطعم بالمر لا بد أن يخلد، فالمرار يغسل الروح إلى ابعد حدود النقاء، والإنسان لا يكتب وهو في نشوة السعادة والنجاح بل المعظم يكتبون وهم في قمة الغضب والحزن والألم والخيبة.
-أين نشرت في تونس؟
نشرت في جريدة الرأي العام، وجريده الصريح، وفي مجلة شمس الجنوب و مرآة الوسط . وعبر أمواج إذاعة صفاقس، وخلال ميكروفون الحفل السنوي لجامعة صفاقس وفي حفل آذار ،2002 كان سفير فلسطين بتونس، منير غنام من بين الحضور.
-هل تعكفين اليوم على النشر في فلسطين؟
بالتأكيد فهذا مكاني الحقيقي وبيئتي الطبيعية للإنتاج الأدبي والتواصل لإكمال المشوار. وكلني أمل أن ترى كتاباتي النور في المجلات والجرائد، وكذلك سأصدر مجموعة قصصية عن قريب وسأنضم لاتحاد الكتاب الفلسطينيين فيما بعد.
-لمن تقرأ الطبيبة عبلة في المقام الأول؟
أنا أقرأ لأعيش، إن توقفت عن القراءة تتوقف الحياة. أقرأ في جميع المجالات ولكني أميل إلى الروايات والشعر والفلسفة و لو سألتني من أعجبك لاجبتك انه يعجبني كوميديا المأساة عند الأديب التركي عزيز نيسين، وضياع عبد الرحمن منيف، وموج البحر في كتابات حنا مينة، وجرأة محمد شكري، ودقة الوصف عند ماركيز.
أما من الشعراء فقد أعجبني ثقة المتنبي بنفسه واعتزازه بها، ورقة ابن زيدون وشفافيته، أما ما لم يعجبني هو الخروج عن الأدب و حدة قلم نوال السعداوي.
-هل الكلمة تداوي الجراح والأوجاع كالترياق؟
الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، فالكلمة أحيانا تجرح وتؤلم أكثر من حد السيف. وتترك جرحا غائرا لا يندمل بمرهم الزمن، لذلك الكلمة الصادقة تخترق الحواجز لتستقر في أعماق النفس وتهبها السكينة والرضى.
والراحة النفسية هي نصف علاج المريض، والعلاج النفسي مبني أساسًا على الكلمة والحوار.
-يسمونها تونس الخضراء، أو بلاد الأنس والجمال، هل ألهمك المكان في قوة أمل؟
تسمى أيضا البلد الأمين وارض الأحلام، فهي لوحة فسيفساء من التنوع الجغرافي حيث البحر والصحراء والجبال والسهول وغابات الصنوبر وكروم الزيتون وواحات النخيل. وفيها التنوع العرقي للسكان، إلى جانب ثرائها الحضاري والتاريخي والتحاقها بالركب الحديث في المعمار والعلم والاقتصاد وجميع مجالات الحياة .
و هناك مسرح قرطاج التاريخي وهو ملتقى الحالمين والمبدعين ورواد الفن والجمال .
ذهبت إليها لأدرس الطب ولا ادري كيف تفجرت بداخلي موهبة الكتابة. بالتأكيد ألهمني المكان الأمل كله في أن اكمل ما بدأت، وأنا أرى أن تونس شبيهة جدا في فلسطين فكلاهما وطني وملهمي.
-كيف تقارن عبلة بين المرأة في تونس والمرأة الفلسطينية؟
تنحني جميع نساء العالم إجلالا لتضحيات المرأة الفلسطينية ولعطائها، ولكن كواقع فالمرأة الفلسطينية ما زالت مطحونة اجتماعيا وهذا يحزنني كثيرا وهو موضوع يطول الحديث فيه، ولا أريد أن أكون ثقيلة الظل في حواري الأول بعد عودتي.
اعتمدت تونس نظام الشراكة العالمية في الاقتصاد وهذه التجربة العربية الفريدة أتاحت للمرأة الرقي والوصول إلى أعلى المراكز الاقتصادية الحيويةو تونس هي البلد العربي الوحيد الذي يملك مجلة الأحوال الشخصية وقد شكلت هذه المجلة قاعدة قانونية حفظت للمرأة مكانتها الاجتماعية وكرامتها .
فانطلقت تبدع وتعطي وتبني أسرتها ومجتمعها ووطنها بصورة حضارية سليمة نحو و استفادت المرأة التونسية من مجانية التعليم الجامعي لتصل إلى أعلى المراتب العلمية في مختلف التخصصات.
-هل هناك حالة موت سريري للثقافة تحت الاحتلال، (هذا لا يعنى انتفاء الثقافة والمثقفين وإنما تراجع تأثيرهم ودورهم)؟
بالتأكيد لا، فالموت السريري يعني الموت النهائي للدماغ أي موت لا رجعة فيه ولا أمل في الحياة. قد يكون هناك تراجع نظرا للظروف الحياتية الصعبة الراهنة، ولكن باعتقادي إنها من أفضل الفرص النادرة لنكتب ونبدع ونخلد كتاباتنا.إذ إن الأدب الأندلسي ازدهر في أسوأ الظروف أي في عهد ملوك الطوائف وكما نذكر فان ابن زيدون كان آخر الباكين على مجد غرناطة الضائع.
-في تونس لهجة مغاربية مختلطة بالفرنسية، هل تأثرت بها؟
اللهجة التونسية رقيقة جدا وسلسة بالرغم من كونها مزيج من العربية والفرنسية والبربرية والأندلسية وقد احتجت عاما لإتقانها لتسهيل التخاطب اليومي، وأني أراها أحيانا طريفة جدا ، فكلمة سردوك تعني ديك وكلمة قطوس تعني قط وكلمة علوش تعني خروف وكلمة برشة تعني كثير وكلمة هز تعني خذ.
و إلى الآن ما زلت اردد الكلمات التونسية ولم أعود للهجتي الأصلية بعد .
-هل الأدب المغاربي مختلف كثيرا عن أدب المشرق في بعض تفاصيله الصغيرة؟
لا يوجد أدب مشارقه أدب مغاربة هناك أدب عربي ,وان كانت النصوص المغاربية لديها لمساتها الجمالية الخاصة بها كاللمسات الأندلسية والبربرية والأفريقية , كذلك التخاطب اليومي مع أوروبا عن طريق اللغة الفرنسية وهي لغة الرومانسية كما يصفونها لأنها لغة المسرح والموسيقى والشعر والفن ساهم في إثراء النصوص وإكسابها ملامحها المميزة. ونحن هنا أيضا أُثر فينا سحر الشرق الرائع وطبع نصوصنا بطابعه الخاص.
-من هن الأديبات التونسيات الأكثر شهرة، واللواتي أثرن فيك ومنحنك التشجيع؟
تربطني صداقة بالشاعرة نجاة الورغي والمذيعة ثريا الميلادي والكاتبة فاطمة الزياني، أما من اثر عميقا في نفسي وشجعني و أرسل أول قصصي لجريدة الرأي العام هو الناشر والناقد المعروف عبد الرزاق كمون، كذلك الاديب الرائع محمد الحبيب السلامي محرر مجلة شمس الجنوب فقد نشر معظم كتاباتي وما زال ينشر لي للآن.
--كيف تصفين المشهد الثقافي في جنين، وفي الوطن بعامة؟
جنين هذه المدينة الساحرة، مدينة الحياة التي أحرقت ومسحت عن الوجود مرتين. حين تسير في شوارعها مع أول خيوط فجر اليوم الجديد، ترى صخبا للحياة لا يوجد في أي مدينة أخرى.
إذ يرى الفرنسيون أن اجمل سينما في الدنيا هي سينما الحياة، وهذا يتجسد واقعا فعليا عندما تسير في شوارع جنين الصغيرة حيث الحيوية والنشاط الدؤوب والحركة المتواصلة، إنها افضل أماكن الدنيا للكتابة والإبداع بالرغم من أن المشهد الثقافي فيها لم يكتمل لي بعد.
في لقائي الأول في الأدباء بمقر وزارة الثقافة في جنين لفت انتباهي أن جميع الحاضرين هم من ذوي الشعر الأبيض، وهذا يدعو للتساؤل عن تغيب الجيل الشاب المبدع.
أما بالنسبة للمشهد الثقافي في الوطن فهو ممتاز على المستوى العالمي إذ لدينا مجموعة لا بأس بها من الأدباء المبدعين، وقد تعرفت إليهم في الدائرة الثقافية بتونس عندما كان الأديب الرائع عبد الله الحوراني رئيسا لها.
-من هي عبلة الفاري؟
هي الفلسطينية بكل ما تعني هذه الكلمة وكما اعتدت أن تناديني صديقاتي، وكل من يعرفني في تونس.
-هل تعرفين نفسك طبيبة في المقام الأول، ولماذا؟
أنا طبيبة كاتبة هي كلمة واحدة لا تتجزأ بالنسبة لي، ولكن كما ترى فنحن ننزف يوميا وبحاجة ماسة لمن يوقف النزيف ويضمد الجراح ويسكن الألم
-كيف كنت تحسين بالوطن من الغربة، وهل تغير هذا الإحساس بعد العودة؟
وطن الإنسان هو كرامته، نحن الفلسطينيون موصومون من قبل الآخرين بجنسيتنا، في كل مطار وميناء ومحطة سفر. أينما عرفوا انك فلسطيني فهذه تهمة عليك أن تقف طويلا جانبا للتدقيق والنظر في أمرك بالرغم انه لا ذنب لك. الإحساس في الوطن بالغربة يتلخص في كلمة واحدة هي المرار.
الآن وأنا في وطني, كلما ذهبت لموقع عملي لإيصال الخدمات الطبية للقرى النائية في المحافظة، انظر من زجاج السيارة وتنتابني حالة من الشرود الذهني الرائع وأحمد الله في أعماقي لأني خضبت كفي بترابها، وكحلت عيني بزرقة سمائها، وارتويت من حلو مائها وعذابها وامتلأت رئتاي بطيب زعترها، وعبق ترابها المبلل بالمطر.