في مجموعتها القصصية الأولى(مجنون حيفا)
د. عبلة الفاري
شخوص يعتريهم الألم .. لكنها تصنع من مرارة العيش نوراً للتحدي اسمه امرأة.
بقلم الكاتبة : سناء بدوي
فلسطين المحتله
لم أنتظر حتى موعد اللقاء بالكاتبة القاصة الفلسطينية عبلة الفاري ، لتحدثنا عن مجموعتها القصصية الأولى . فأنا أعلم من حيث يقدمها الآخرون، مثقفة مرهفة الحس والإحساس.. وهادئة صافيه كسماء بلادنا في ليالي السمر . كنت أشاهدها في اللقاءات الثقافية والاجتماعات التي كانت تنظمها مديرية الثقافة في محافظة جنين بين الفترة والأخرى. فعبلة الفاري.. سيدة لها حضور يجسد الرغبة بالبوح تارة و بالتمرد تارة أخرى . فهي لا تزاحم الآخرين في فضاء الأدب للحصول على مساحة من الوقت لنثر الخطب الرنانة وسرقة الأضواء.
وهي، وإن كانت قد شكرت في إهدائها لمجموعتها القصصية الأولى من ظلمها.. ومن آلمها.. فإنما هي غير منتظرة من هذا الوجود سوى أن يترك لها صفحاته البيضاء لتخط عليها تجربتها الخاصة و علها كذلك تستطيع الدفاع عن أحلام من عايشتهم من أبناء شعبها الذين لا زال يرزح تحت نير الاحتلال .
وفي الاهداء كتبت " الى كل اللذين ظلموني.. الى كل اللذين زرعوا الشوك والألم والمرار في مسالك طفولتي..ودروب غربتي الموحشة المظلمة الطويلة..أشكركم جميعاً .."
لماذا لم تهدي باكورة أعمالها القصصية لأمها ،مثلا، كمايحلوا للبعض؟! أو لمن أعانها على نيل شهادة عليا في الطب البشري من دولة ليست وطنها؟؟ بل شكرت من آلمها؟؟! أي حس مرهف هي ؟؟ أي إنسان كانت عبلة الفاري حين بررت ما كتبت في إهداءها " لأنه لا شيء يجعلنا عظماء .. سوى الألم العظيم.. ولآن الروح لا تسمو .. إلا إذا اغتسلت بالألم والنور.. واعتكفت في محاريب العلم والإبداع"..
إذاً كانت للتجربة في حياتها والمعاناة ، وأي معاناة تلك التي تركت هذا الأثر في ما عبرت عنه تلك الكاتبة ذات الحس المرهف !!؟ لتجعل من يجد مؤلفها الأول بين يديه لا يتركه إلا بعد أن يعيش معها بين الصفحات المائة، من القطع المتوسط ، من صفحة الغلاف ذات اللون ( البيج )الساكن بالهدوء المشوب بالروتين ، وذاك الشيخ الذي وضع يده على خده، وقد أنهكته الدنيا بما حملّته من متاعب بدا أثرها على محياه حيث عكازه وحيرته وتبرمه الواضحين وعلى الرغم من أن المركز الفلسطيني للثقافة والإعلام هو دار النشر الوحيدة في جنين التي نشرت لعدد من أدبائها ما خطته أيديهم وعبرت عنه أفكارهم ، قد أغفلت إخبارنا بصاحب هذه اللوحة ، فإنها قد نجحت بأن تبدع في إخراج الطبعة الأولى من المجموعة الأولى للدكتورة الفاري بهيئة حسنة .(مجنون حيفا) التي تحمل المجموعة أسمها كانت القصة الأخيرة من تسع قصص وهي بالترتيب :عاصفة الظلام، كابوس الامتحان الأول، ابن الشاطئ، قارئة العيون، زائر الليل، نسائم الذكريات، المقابلة رقم عشرين، الطيف.
المتتبع للأسماء يحس بسخونة الموقف، وحضور الضبابية ، و الوحدة عند لزوم التجربة والتحدي في آن معاً.فهل عاش شخوص الفاري تلك الظروف في المكان والزمان والعقدة؟؟ أم أن هنالك طاقات للأمل هي مفتوحة على عالم حالم بالحب والتحرر وربما ألا واقع؟؟
في قراءة هي سريعة ، سندخل علم الشخوص التسعة في قصص الفاري ومجموعتها البكر ، علنا نمسح بعضاً من عتق الذكريات عن مراحل مرت بها الكاتبة أو مر بها شخوصها الوهميين أو الحقيقيين ، لا ندري.
(مجنون حيفا) وجدت نفسي أمر عليها سريعا كمستقل حافلة في مشوار قصير. فاستوقفني هذا الإحساس بالأرض والتعلق بمكان ؛إنها حيفا التي جن العم منصور بطل القصة لأجلها بعد أن أجبرته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 48 على تركها والفرار بذكريات حميمة وحب قاتل ظل يطارده عشرات السنين حتى أمسى مجنوناً يستقل كل حافلة متحركة قاصداً حيفا.. ليسقط صريعا بفعل حادث سير في أحد شوارعها المدنسة باللغة العبرية والمطلية بإحداثيات غريبة و جديدة لا تعرف للحب تصريف؟؟ ولكن لماذا لم تذّكر الفاري قراءها بالاحتلال صراحة.. وهي التي قالت في السرد ، بأنه يشبه حالة جدتها التي كانت من حيفا ومرت بذات التجربة (وفي الحقيقة فالفاري من المنسي في حيفا) تأثرت باللجوء وعاشت ذكريات أجدادها فوجدت معاناتهم في معاناة الآخرين اللذين لا زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم على أمل العودة.