شذرات من كتاب فيض الوجدان لمحمود الحرشاني
بقلم محفوظ الزعيبي
فيض الوجدات يمثل العدد الثامن من سلسلة كتاب مرآة الوسط عدد صفحاته 124 ويشمتمل على 34 مقالة ذات مواضيع مختلفة في السياسة والثقافة والسيرة الذاتية والصحافة وهي مقالات نشرها في مجلة مرآة الوسط ومجلة العربي بالكويت وجريدة العربي والصريح التونسية وجريدة الصحافة وكذلك الحرية وأغلبها منشورة سنة 2009، أي حديثة العهد ومواضيعها آنية...
وليسأل سائل لماذا في الوجدان والفيض هو ما تجيش به القرائح والمشاعر من حبّ وافصاح عن رغبة وترجمة لما يبوح به الإنسان من أحاسيس متأتية من أعماقه ووجدانه... لم يطق كتمانها والإبقاء عليها... وهذا ما عبـّر تماما عن معاني الكتاب ومراميه والغايات من مواضيعه... وفي التمشي مع هذا الكتاب جعلني في البداية أوجه الاضواء نحو بعض المواضيع دون غيرها، حيث اراها قريبة مني بل تلمسني بالتأكيد وكل ما يرد من ملاحظات واراء غير مرتبة أو مبوبة هي محاولات مني لتقصي الحقيقة والوقوف على واقع كثير من القضايا التي تشغل بال الكاتب وتدمي قلبه وفكره...
ولاحظت في هذا الكتاب اهتماما مريعا بما تحقق في هذا الكون من تقدم مدهش يمسّ جميع جوانب الحياة ومشاغل الإنسان بما في ذلك التحولات الكبرى في سبيل الطباعة والنشر. وقد افزعه انتشار الكتاب الثقافي الالكتروني الذي يمثل خطرا رهيبا على الكتاب الثقافي الورقي...وقد طرح كثيرا من الأسئلة: عن مصير الطباعة والنشر بالطرق العادية التقليدية وعن تقلص عدد قراء الكتاب المطبوع على الورق، التي تشوب وتعكر مستقبل حقوق التأليف، وعن الاستحواذ على مجهودات الآخرين أصحاب المؤلفات الحقيقية، وهل أن القوانين المشرعة كفيلة، بحمايتهم والوقوف إلى جانبهم والتصدي لمثل هذه العمليات والممارسات الظالمة الدنيئة... هذا الهوس العميق أصبح يبدو للجميع كالغول الذي يزحف ولا يرحم ولا يسلم احد من شره وأذاه... وهذا الداء الجديد اقلق الناشرين والكتـّاب على حدّ سواء لان الطوفان المحدق يمس كل الأطراف بدون استثناء فهو خط احمر بل عقبة كاداء في سبيل مستقبل دور الصحافة وطباعة الكتب والمجلات وغيرها... وفي حديثه عن جدلية الصراع بين الثقافة والسياسة والمقاربة الممكنة بينهما تحت عنوان هل تخرج الثقافة من الباب عندما تدخل السياسة من النافذة ص 57 وكأنه يشير إلى الصراع الخفي بين الثقافة والسياسة باعتبار أن الأخيرة تفسد على الأولى حرية الإبداع وجسارة الفكر وربما تؤثر عيها فتجرها إلى الطاعة والاستسلام وتنفيذ بعض الأوامر المسقطة... وقد اورد في هذا الركن معلومات غزيرة واخبارا مترفة وانجاز كليا إلى قطاع الثقافة الذي فضله عن القطاعات الأخرى واسهب في تقديم الأسماء والضيوف في مهرجانات الفكر والأدب داخل الوطن العربي مبديا بعض التفاصيل والهوامش كاستضافة الصادق الشابي نجل أبي القاسم الشابي في مدينة فاس، بمناسبة الاحتفالات بمرور 60 سنة على وفاته وبحضور فدوى طوقان وسلمى خضراء الجيوسي والناقد العراقي صلاح نياري والمصري فاروق شوشة وقد مثل الوفد التونسي كل من محمد الصالح الجابري وأبو القاسم محمد كرو والميداني بن صالح وكمال عمران وغيرهم...
ومن مآثر هذا الكتاب تنوع المعلومة وتزويد القراء بما ينفعهم وينمي معارفهم وسعة اطلاعهم ويقدم مواضيع ربما لا تثأر أحيانا مثل اتيانه على ذكر ولاة في تاريخ تونس ص 60و63 وعلاقته بهم كصحفي والذكريات معهم فإذا بأسماء كثيرة تعود إلى البال وتطفو في الذاكرة... أنها محصلة تاريخية، ومرجعية لاحداث واقعية... وفي وينك يا صبادري الغزالة؟ ذهب بنا إلى ذكريات الأمس، أيام التلمذة وعهودها الجميلة... ولعل صبادري الغزالة هو رمز لتلك الطفولة التي طواها الزمن ولكن بريقها مازال حيا لم تخمد جذوره... أليس هذا الصبادري يذكرنا بحلوى العرائس وصباط ماجول وقازوز القرمازي والمسدي وحنـّة زنوبة وغير ذلك من رموز البضاعة التي كانت متداولة في ذلك الوقت وكانت قريبة منا لاستعمالاتها وحاجياتنا إليها، وهي مثيرة لعهد الصبا والعمر الجميل... فاحاديثه عن الإعلام والمشاهير وروائح الماضي تمثل اقاصيص مبدعة، غائصة في المعلومات والمشاهد والأحداث التاريخية، بأسلوب جيد في التقديم وبلغة متيسرة ذات نقاء وصفاء... فالحرشاني يملك عناصر القصة ويحذقها جيدا، ولا نستغرب منه أن يخرج علينا ذات يوم محتضنا رواية خالصة أو مجموعة قصصية صرفة متولدة من رحم أفكاره كقاص أو روائي لا كصحفي كما نجح في كتابى قصص الأطفال... وفي حقيقة الأمر جعلنا نتيقن في السنوات الأخيرة انه بدأ يميل إلى توخي المنهج القصصي في كتاباته التي زادها حلاوة خالصة فيما يتعلق بوصف الجانب الذاتي وأحاديثه عن طفولته... فعندما دغدغ دواخله فتح لنا الأبواب على مصاريعها كاشفا عن صورة ووقائع تختزن الألم والسعادة وتعج بالحياة وتأى بالقلم عن رتابة الكتابة الإخبارية والنقلية وما يلزمها من بروتكول وقيود...
[center]