مرآة الوسط تطفئ شمعتها الثلاثين ومضات من الذاكرة
رحلة عشق مع مجلة بدايتها كانت أيضا بدايتي
بقلم: صغير الغربي
أن تنجح في إصدار مجلة بشكل منتظم لمدة ثلاثة عقود، هو ولا شك انجاز عظيم، لكن أن تكون هذه المجلة، جهوية، فهذا انجاز، أعظم .ومرآة الوسط التي انطلقت مع بداية الثمانينات كجريدة نجحت في نحت طريقها في المشهد الإعلامي والثقافي التونسي بكل جدارة . هي من بين الدوريات التونسية القليلة التي لها مهرجانها الأدبي وتنشر سلسلة كتب. الحقيقة إن مميزات هذه المجلة كثيرة ولا أستطيع أن أحصيها ، غير أني أردت أن أسجل ومضات من ذكرياتي الشخصية حول “مرآة الوسط“ ولا أدعي أن ما سأورده من معلومات له أهمية في تاريخها ومسيرتها . لكن هذه الذكريات عادت لي حين التقيت سي محمود الحرشاني خلال السنة الماضية.
البداية كانت في أول الثمانينات ، حينها كنت في الثالثة عشر من عمري وكنت في أوائل المرحلة الثانوية القديمة، التي تجمع اليوم، بين المرحلة الثانية من التعليم الأساسي، ومرحلة التعليم الثانوي الجديدة. وصادف يوما أن إلتقيت في شوارع سيدي بوزيد بمعلمي بالمدرسة الابتدائية بالصندوق-ومديرها أيضا – محمد بدري رحمه الله . وكان لهذا المربي المثالي بصمات لا تنمحي في نفسي، وفي تكويني الأساسي ، ويكنّ له تلاميذه إلى اليوم مشاعر محبة واحترام لا نظير لهما، وخلال هذا اللقاء لم يترك سي محمد الفرصة دون أن يغرس في نفسي شجرة جميلة مازالت تكبر وتزهر كل يوم وهي شجرة المطالعة والقراءة. فقد أخذني معلمي الفاضل حتى وصلنا إلى كشك الصحف الوحيد في المدينة آنذاك ويعرف بكشك “ياسين“ نسبة إلى اسم صاحبه . وكان هذا الكشك الذي اختفى منذ سنوات قليلة موجودا قبالة مقر الولاية ومقر البريد . وأمام هذا الكشك الدائري والذي غطت جدران جانبه المقبل للشارع الرئيسي بالمجلات والجرائد ، ثم قال لي سي محمد اختر أي مجلة تريد. وحين رأى مني التردد والخجل اختار بنفسه عدد مجلة «العربي» ثم أهداه إلي . كان لهذه الحادثة البسيطة في ظاهرها والعظيمة في نفسي ، الأثر العظيم فيما بعد في اهتمامي المبكر بقراءة الصحف والمجلات . وأصبحت منذ ذلك اليوم وكلما مررت بهذا الكشك أقف برهة لأنظر في أغلفة الجرائد والمجلات بأنواعها . وهكذا حفظت أسماء المجلات، الصحف ومواضيعها وكنت اقتني منها الكثير (أو أكثر مما ينبغي لطفل في عمري له إمكانيات محدودة) حتى أن والدي عاتبني أكثر من مرة على إسرافي في ذلك.
وقد لفت نظري مرة صحيفة جديدة اسمها «مرآة الوسط» وقد احتلت مكانا بارزا في واجهة الكشك. وشدني إليها أكثر ما ورد في تعرفها من أنها تصدر في سيدي بوزيد. صحيفة تصدر في سيدي بوزيد؟ كان هذا بالنسبة لي بمثابة الشيء الغريب. المهم أنني اقتنيت هذا العدد والذي اعتقد انه احد الإعداد الصادرة في أواخر 1981 أو أوائل 1982، وقرأت اسم صاحبها محمود الحرشاني.
ورغم أن اسم محمود الحرشاني هو أشهر من نار على علم في سيدي بوزيد وكنت اعرفه من بعيد، فان أول لقاء لي به كان في أواخر التسعينات في أروقة الإذاعة والتلفزة التونسية وقدمني إليه صديقي العزيز وحيد براهم.
لقائي الثاني بسي محمود بعد ذلك بعشر سنوات، في كواليس برنامج نسمة صباح على قناة تونس 7 الفضائية، وكان السيد الحبيب بن محرز منتج البرنامج هذه المرة هو من جمعنا ثانية. ومنذ ذلك الحين أصبحت بيني وبين سي محمود تواصل منتظم بعد أن دعاني إلى الكتابة في مجلة «مرآة الوسط» العزيزة. وعادت بي الذاكرة مرة أخرى إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي. هذه البدايات كانت أيضا بداياتي وبدايات «مرآة الوسط» وارتبطت هذه البدايات بعلاقة قارئ بصحيفة واستمرت اليوم بعلاقة صحفي بمجلته. وأنا بعيد كنت على وعي بصعوبة طريق مرآة الوسط، غير أن ما رواه لي سي محمود من تفاصيل حول مسيرة هذه المجلة والمصاعب التي اعترضته كان يتجاوز ما تخيلته.
وحين تجلس مع سي محمود اليوم لا يحدثك إلا عن «مرآة الوسط» بأسلوبه الحماسي الذي لا يفتر والذي لا يخلو من روح النكتة العفوية والصراحة التي تعود بها أهل سيدي بوزيد. ويحدثك عنها كما يتحدث الأب كيف انشأ أبناءه ورعاهم، فيحدثك عن سهر الليالي في رعايتهم وتوفير المأكل والملبس لهم دون أن يخلو ذلك من كثير من الارتياح بان جهوده أثمرت أجمل الثمار وأحسنها.
الثلاثون شمعة التي اطفاتها «مرآة الوسط» هي شموع اضاءها محمود الحرشاني في سماء الصحافة والأدب لتنير درب أجيال جديدة سيتسلمون المشعل يوما لمواصلة هذه المسيرة الناجحة.
عضو أسرة تحرير المجلة، وباحث في شؤون التربية والإعلام
[center]