الروائي الياباني هاروكي موراكامي: الترحال والكتابة الروائية تجربتان متماثلتان
قام رولاند كيليست المحرر الثقافي بمجلة «نوماديك سبيريت» بإجراء هذه المقابلة مع الروائي الياباني هاروكي موراكامي بمناسبة صدور الترجمة الانجليزية لروايته الثانية عشرة بعنوان «بعد الظلام» عن دار الفريد نوف النيويوركية مؤخراً،
حيث ألقى الضوء على جوهر هذه الرواية الذي يدور حول قراءة في ليل طوكيو الوحشي حسب تعبيره، وتطرق إلى جوانب شتى من عالمه الروائي مشيراً إلى أن الاكتشاف هو جوهر هذا العالم، وأن الجهد الذي يبذل تحت آفاقه أقرب إلى الترحال نحو المجهول. وفيما يلي نص المقابلة:
* يشير بعض النقاد إلى أن رواية «بعد الظلام» هي في جوهرها تقاطعات عبر الواقعية السحرية بين ثلاث قصص متداخلة تشكل النسيج الأساسي لهذا العمل، فما هو تعقيبك على هذه الروية لروايتك؟
ـ كلما تعددت قراءات النقاد في الأعمال التي أقدمها كان ذلك مصدر سعادة أكبر بالنسبة لي، من دون أن يعني ذلك بالضرورة موافقتي على ما يطرحونه في هذه القراءات، وهذا ينطبق على رواية «بعد الظلام» بدورها، وهي في جوهرها تشكل محاولة لتحقيق قراءة في ليل طوكيو الوحشي عبر ساعات قلائل بين انتصاف الليل وانبلاج الفجر،
ويهمني هنا أن أشير بصفة خاصة إلى حقيقة كثيراً ما تلقى التجاهل، وهي أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخوض اليابان لتجربة التحديث الثانية، فقدت أعداد كبيرة من اليابانيين إحساسهم بالوطن بمعناه التقليدي الذي تمت معايشته عبر ألوف السنين، ولا شك في أن ذلك قد أثار مشاعر ألم عميقة بلا حدود، وقد حاولوا إعادة تجميع روح ذلك الوطن الياباني، بطرق عدة منها تجميع وتصوير جمال الطبيعة اليابانية أو الملابس اليابانية التقليدية أو الأطعمة اليابانية، وفي اعتقادي أن كتابة الرواية هي من الأساليب التي تم اعتمادها لتحقيق هذا الهدف نفسه بهذا القدر أو ذاك من النجاح.
* ما هي قيمة الكتابة وأنت على بعد كبير من الوطن؟ لماذا كتبت هذا العدد الكبير من الكتب عبر البحار؟
ـ من الأسهل بالنسبة لك أن تكتب عن بلدك عندما تكون بعيداً عنه، فمن بعيد يمكنك أن ترى بلدك على نحو ما هو عليه حقاً. وقد كتبت رواية «الغابة النرويجية» عندما كنت أقيم في عدة جزر يونانية وفي روما وباليرمو بايطاليا، وكتبت معظم روايتي «أرقص، أرقص، أرقص!» في روما وكتبت جانباً منها في لندن.
وكتبت النصف الأول من «قصة طائر آلي» في برنستون والنصف الآخر منها في كامبردج، وكتبت «بعد الزلزال» في وسط طوكيو، وعلى وجه التحديد في منزل صغير معزول يملكه ناشر الكتاب. وأعتقد أن في أعماقي روحاً بدوية لا يمكنني كبح جماحها، وأنا أعرف أن كل كتاب من هذه الكتب مرتبط بكل مكان من الأماكن التي تم تأليفها فيها. وعندما أفكر فيها تخطر على بالي مشاهد الأماكن التي ألفتها فيها.
* لماذا ألفت هذه الكتب في هذه الأماكن؟ هل هناك سبب محدد؟
ـ بالنسبة لي، فإن تأليف هذه الرواية يعني أن تكون لي علاقة من نوع ما بالخيال، وهذا يقتضي مني أن أهرب من الحياة اليومية، على الأقل إلى حد ما، وذلك هو السبب في أنني أريد الذهاب إلى مكان مختلف لإنجاز عملي، سواء أكان ذلك في اليابان أو في أميركا أو أوروبا، وطالما أنه سيكون هناك مكان يمكنني فيه التركيز على عملي، فليس يهمني أين أكون. وفي الوقت الراهن فإن شمالي كواي هو المكان المفضل لديّ للكتابة فيه، وكون المطر ينهمر مدراراً هناك يسمح لي كذلك بالتركيز بشكل مباشر على نحو أكبر على كتاباتي.
* هل يؤثر كل مكان على كتاباتك بشكل مختلف؟ هل يمكنك إدراك الكيفية التي تلون الأماكن بها خيالك في الكتب؟
ـ لست أدري على وجه الدقة، ولكنني لا أعتقد أنها تؤثر فيها حقاً، فعندما أواجه المكتب الذي أعكف على التأليف عليه وأركز على ما أقوم به وأدخل إلى ذلك العالم الموجود في رأسي، فإن الأماكن تتساوى بالنسبة لي أياً كان المكان الذي أجد نفسي فيه، بل ان هذا الأمر ليس مهماً على الإطلاق، وأحسب أن الأمر ينتهي بألا تكون له أهمية بمجرد ولوجي إلى خيالي.
* هكذا فإنك لا تسافر عضوياً فقط، وإنما أنت ترحل ميتافيزيقيا كذلك إلى الذات، إلى الخيال. لقد قلت لي ذات مرة إن الرحلة إلى الخيال مفعمة بالمخاطر، مثل السقوط في بئر، وهي صورة فنية تستخدمها كثيرا في رواياتك وقصصك. ما هذه المخاطر؟
في كل الأحوال تقريباً، فإن الهدف مفعم بالغموض، وأنت في نهاية المطاف تريد العودة سالماً إلى نقطة البدء، وكتابة الرواية هي الشيء نفسه، فبغض النظر عن مدى ايغالك في الرحيل أو عمق المكان الذي تذهب إليه، فإنك في النهاية عندما تنتهي من الكتابة يتعين عليك أن تعود إلى المكان الذي بدأت فيه، فهذا هو المقصد النهائي. غير أن نقطة البداية التي تعود إليها لا تكون أبدا نقطة البدء التي انطلقت منها بالفعل. إن المشهد هو ذاته، والوجوه هي نفسها، والأشياء الموضوعة هناك هي عينها. غير أن شيئاً بالغ الأهمية تغير بصورة مؤثرة، وذلك هو ما نكتشفه، إنه اكتشافك، وأن تعرف ذلك الفارق هو أيضاً أحد أهدافك الرئيسية، أو على الأقل الإقرار بوجود ذلك الفارق.
* هل يعني ذلك أن الترحال والإبداع يرتبطان من خلال الرحلة؟
ـ نعم، بذلك المعنى قد يكون الترحال وكتابة الرواية تجربتين متشابهتين، فأنت تبدأ بزيارة الأماكن القريبة، الأماكن التقليدية، الأماكن التي يعرفها الجميع، ثم تدريجياً تبدأ في الترحال إلى أماكن أكثر بعداً وعمقاً وغموضاً، بل قد تمضي إلى أماكن أكثر خطورة، تماماً كما أن المتزلج على الماء يوغل في الابتعاد عن الشاطئ للعثور على أمواج أكبر، وربما كان ذلك هو طبيعة الرحالة والروائي.
* قال لي الروائي والناقد والرحالة الأميركي بيكو أير إنك الروائي الياباني الأول الجاد والوحيد الذي يمكنه أن «يتملك ناصية الشرق والغرب معاً»، وان كتاباتك هي جزء مما يصفه بـ «الوعي العالمي». ومن المؤكد أن تلك إشادة مؤثرة. لماذا تعتقد أن رجلاً من كوبا يوصف بأنه كاتب عالمي؟
ـ حسناً، في قراره فؤادي عالم عميق ومعتم وغني، وأنت في قرارة فؤادك لديك أيضاً عالم عميق ومعتم وغني. وهكذا فإنه بهذا المعنى حتى وان كنت أقيم في طوكيو وأنت تقيم في نيويورك أو تمبكتو أو ريكيافيك، فإن ذلك يعني أننا في أعماقنا توجد تلك الطبيعة أو الخاصية، بغض النظر عن المكان، وإذا تتبعنا تلك الطبيعة إلى مكان أكثر عمقاً، فإننا سنكتشف أننا نعيش في عالم مشترك، عالم يمكننا أن نسميه «قصة».
* كيف يبدو هذا المكان؟
ـ إنه تحت الواقع، وكأنه قطار أنفاق حقاً، وفي عالمنا السفلي ذاك هناك أنفاق طويلة تمتد في كل الاتجاهات، وإذا أردنا جادين أن نلتقي، وأيضاً إذا كنا محظوظين فإننا سنتمكن من أن يلتقي أحدنا الأخر في موضع ما هناك في الأسفل.
وفي الواقع فإن كلمة «عالمي» هي شيء ليس بمقدوري فهمه، لأننا لسنا بحاجة بالضرورة إلى أن نكون عالميين. إننا بالفعل ما أصفه بـ «تبادليون». وإذا استخدمنا صلة عالمنا المسمى بالقصة، فإنني أعتقد أن ذلك كاف لجعلنا نظل متصلين.
* بعد الانتهاء من هذا اللقاء، ستبادر إلى الرحيل إلى أراض بعيدة، ما هي الجهات المفضلة في المناطق الواقعة عبر البحار بالنسبة لك؟
ـ الجهة الأولى هي مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، لأنها المدينة الأكثر ملاءمة وإرضاء بالنسبة لهواية جمع تسجيلات موسيقى الجاز المستخدمة، وبالإضافة إلى ذلك فهناك الكثير من المطاعم الهندية التي تقدم أطعمة شهية، ويمكنك المشاركة في الماراثون هناك، وهو ما قمت به عدة مرات.
أما في أوروبا فإنني أحب ستوكهولم في السويد حقاً. ومجدداً فهناك محل رائع لتسجيلات الموسيقى المستعملة، وقد زرت ذلك المحل كل يوم على امتداد ثلاثة أيام متوالية، وصاحبه من المتحمسين لجمع اسطوانات موسيقى الجاز، وهناك شيء غير مألوف أيضاً فجميع المارة في الانفاق في ستوكهولم يتحدثون عبر هواتفهم النقالة بلا انقطاع تقريباً.
كما أنني أحب سيدني في استراليا، وذلك على الرغم من أن الناس هناك يرتدون ملابس متشابهة على نحو مضجر، والطعام هناك ممتاز. ما أغرب هذا! والاكواريوم وحديقة الحيوانات هناك فريدان من نوعهما ورائعان. ومن سوء الحظ أنه ليس هناك متجر واحد لاسطوانات الموسيقى المستعملة، وربما يتغير ذلك في المستقبل.
محطات في مسيرة موراكامي
*ولد الروائي الياباني هاروكي موراكامي في مدينة كوبي عام 1949 ودرس في طوكيو، وافتتح عقب انتهاء دراسته الجامعية نادياً لموسيقى الجاز تحت اسم «بيتر كات»، ولم يتركه إلا بعد نجاحه الأدبي وتفرغه للكتابة.
* أصدر أول عمل روائي له بعنوان «اسمع زفيف الريح» في عام 1979، وتوالت منذ ذلك الحين أعماله، حيث قدم إثنتي عشرة رواية أبرزها «الغابة النرويجة» و«أرقص، أرقص، أرقص!» و«مطاردة خروف وحشي» و«كافكا على الشاطئ» و«بعد الظلام» وبلغ مجمل أعماله 30 كتاباً، وترجمت أعماله إلى 38 لغة.
* فاز بعدد كبير من الجوائز العالمية، أحدثها جائزة فرانز كافكا، وقام بالتدريس في جامعة برنستون ومعهد ماساشوستس للتقنية بالولايات المتحدة.
* تثير أعماله جدلاً كبيراً في اليابان وخارجها، ويذهب تيار من النقاد اليابانيين إلى اعتبار أن أعماله تخاطب القارئ الأجنبي بأكثر مما تتوجه إلى الجمهور الياباني، وأنها تجاري النزعة الاستهلاكية التي اجتاحت اليابان، وأن أعماله تجسد تسليعاً حقيقياً للأدب الياباني بما يفقده هويته وجوهره الأصيل،
على حين يذهب نقاد أميركيون إلى التحمس الشديد له، ولا يترددون في وصفه بأنه الروائي الياباني الأول اليوم، وهو لقب يحتفظ به كثير من النقاد اليابانيين لمواطنه رايو موراكامي، الذي يقل عنه من حيث الشهرة العالمية، لكنه يحظى بحماس أكبر في اليابان نفسها.
منقول عن البيان[u]