عن دار الطليعة ببيروت، صدر للباحث يحيي اليحياوي كتاب جديد بعنوان العرب وشبكات المعرفة: دراسة في الموقع والواقع ، وجاء موزعا علي أربعة أقسام، أفردها الكاتب لمساءلة إشكالية واقع وموقع الوطن العربي في ظل التوزيع العالمي للمعرفة.
يقول اليحياوي، في صورة آخر الغلاف: هل من حاجة حقيقية لأن نكرر بأن حالنا في إطار التوزيع العالمي للمعرفة، إنما يشي بمآلنا بأكثر من جانب، وعلي أكثر من مستوي؟
فالواقع المتردي لقطاع تكنولوجيا الإعلام والاتصال في معظم الدول العربية، ليس مدعاة اختلاف كبير، ولا مكمن مزايدة ما من لدن هذه الجهة أو تلك. ومعطيات التعليم والبحث العلمي والإبداع التكنولوجي، تدلل علي درجة تدني مستوي الوطن العربي، وإهداره لمقومات التنمية الجماعية الذاتية. كما أن معطيات الارتباط بشبكات المعرفة، من إعلامية واتصالاتية ومعلوماتية، تبين ضآلة عدد المرائب قيد التشغيل، وتزايد عمق الفجوة الرقمية بين البلدان العربية والدول المتقدمة، وفي داخل كل دولة عربية علي حدة .
إننا بكل المقاييس، خارج رهانات العصر وتحدياته، يقول يحيي اليحياوي، وخارج منظومة الاقتصاد الجديد الناشئ من حولنا، وخارج تيارات الاستثمار في الاقتصاد الرقمي المتقدم، ناهيك عن التخصص في تكنولوجيا الصدارة بمختلف فروعها، كتكنولوجيا الفضاء والطب والأعتدة المتقدمة والمتجددة وغيرها.
إننا، بكل حسرة، يتابع اليحياوي، خارج منظومة المعرفة التي كان للحضارة العربية/الإسلامية ولقرون عديدة مضت، بعض القول/الفصل في حالها كما في مآلها.
وهذه خلاصة تتقاطع مع ما جاء في كتابه الآخر الذي يحمل عنوان العولمة والتكنولوجيا والثقافة ، عندما توقف اليحياوي عند إجماع بعض المهتمين بالعلاقات الدولية علي أن مسألة الثقافة، في ظل العولمة والشمولية والثورة التكنولوجية، لم تطرح بجدية كبيرة إلا أثناء الإعداد لإنشاء المنظمة العالمية للتجارة لكونها تزامنت مع مطالبة أغلب دول العالم، ولا سيما ذات الثقافات المهددة ، بضرورة استثناء هذه المسألة، نظرا لدقتها وحيوتها وحساسية الظرف الذي طرحت فيه، وكذلك خطورة المصير الذي من الوارد أو من المقرر أن تخضع له ، لتظهر أسئلة كبري يتقدمها سؤال مصير الثقافات القطرية ، أو باستفسار المؤلف: هل انتهت أو تراجعت السيادة الثقافية بتقدم وهيمنة الثقافة العالمية ؟ وهل سلمت الدول والشعوب بأطروحة أن الثقافة إنما هي صناعة تنتج سلعا وخدمات مثلها في ذلك مثل باقي الصناعات؟
ثمة خمس ملاحظات هامة جدا، يوردها المؤلف في سبيل وضع الأرضية للإجابة عن هذا السؤال:
ـ الملاحظة الأولي تتعلق بمكانة الثقافة في فلسفة واستراتيجيات شركات الإعلام والاتصال الكبري (وهي في معظمها أمريكية) في عصر أهم خصائصه: العولمة والشمولية وتعدد القطبية الاقتصادية، ونحن لا نعتقد مع المؤلف أن هذه الشركات تعير الثقافة كبير أهمية. فهي لا تتعامل معها إلا بالقدر الذي يخدم أهدافها وتطلعاتها في خلق مجتمع استهلاكي عالمي موحد ونمط تفكير، ولنقل رؤية تقدس السلعة والمبادرة الحرة وديموقراطية السوق. وبالتالي، فالثقافات الأخري إنما توظف وتكيف وتنمط لخدمة مصالح العولمة والشمولية ومن ورائهما الروحية والإنتاجية وتوسيع الأسواق.
ـ والملاحظة الثانية ترتبط بما سمعناه وقرأناه قبل وخلال وبعد حفل توقيع ميثاق المنظمة العالمية للتجارة من خطاب حول مسألة الاستثناء الثقافي . وهو الطرح الذي تبنته أوروبا الغربية بزعامة فرنسا، باعتبار أن المسألة الثقافية لا يمكن أن تطبق عليها المعايير والقوانين التي تخضع لها السلع والخدمات بحكم خصوصيتها وارتباطها بقضايا السيادة والهوية والحق في التميز.
ـ الملاحظة الثالثة تكمن في التهميش شبه المطلق لدول العالم الثالث، والتعامل معها لا كخصوصيات ثقافية لها ما يميزها، ولكن كجزء من مجتمع استهلاكي عالمي تحدد فلسفته وتوجهاته انطلاقا من ثقافتين: الثقافة الأنغلوساكسونية المهيمنة علي وسائل الإنتاج والتوزيع المعرفي بحكم امتلاكها لـ التكنولوجيا الثقافية عتادا وبرامج، وقدراتها علي التصرف في مكونات وخصوصيات ما يعرف بـ الثقافات المتدنية وفي مقدمتها ثقافات العالم الثالث. وهناك علي صعيد آخر، الثقافات الجهوية (الفرنكوفونية بالنسبة لإفريقيا، الإيبيرية لأمريكا اللاتينية) التي خلقت لنفسها متنفسا أو سبيلا لدرء مخاطر المنافس الأمريكي لدي الشعوب وأمم أفقدتها الحروب والأزمات آدميتها فكم بالأحري ثقافتها.
ـ الملاحظة الرابعة تنطلق من الاعتقاد التالي: منذ بداية هذا القرن لم تعد الثقافة هي صانعة الاقتصاد (باستثناء اليابان ربما)، بل أصبح الاقتصاد والمال هما صانعي الثقافة، بمعني أن القوة الاقتصادية والمالية للأمم هي التي تمكنها من فرض ثقافتها وتهميش الثقافات التابعة باتجاه السيطرة عليها لا نفيها.
ـ الملاحظة الخامسة تتمثل أساسا في محدودية مصطلحات الغزو الثقافي أو الاختراق الثقافي أو الاستعمار الثقافي المستعملة لكشف ما تمارسه الشركات المتعددة الجنسيات. فهي، في اعتقاد المؤلف، لا تمارس الغزو ولا الاختراق من أجل الاختراق ـ لأن عصر الاستعمار المباشر انتهي بحكم انفصامه عن المنطق وفلسفة الجديد ـ بل توظفه في ما يتراءي لها في عصر العلم والمعرفة متطابقا وفلسفة عولمة الاقتصاد ورأس المال. بالتالي، فالغزو والاختراق لا يوظفان كهدف بقدر ما يتخذان وسيلة لتوسيع فضاء رأس المال ومجالا لترويج السلع داخله.
جدير بالذكر أن الكتاب صدر عن دار الطليعة، بيروت، نيسان (أبريل) 2007، ويوجد في 160 صفحة، وسبق للمؤلف أن أصدر مجموعة من الأعمال التي تتمحور حول ملفات العولمة الاتصال والمعلوماتية، ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: حركة الليبرالية ومنطق الخوصصة (بالفرنسية)، الوطن العربي وتحديات تكنولوجيا الإعلام والاتصال ، العولمة ورهانات الإعلام ، المحطات الفضائية في العالم العربي/الإسلامي: تحليل في المضامين الثقافية ، العولمة الموعودة ، العولمة ومجتمع الإعلام ، الإنترنت ومجتمع الإعلام ، و العولمة والتكنولوجيا والثقافة و شبكات الإكراه بالمغرب ، و الإرهاب وأممية الاحتجاج علي العولمة ، كونية الاتصال، عولمة الثقافة .. ومؤلفات أخري كثيرة.