حفريات في البحث عن فكرة

حفريات في البحث عن فكرة
مدخل لقراءة الكتاب الجديد لمحمود الحرشاني
الأستاذ الكاتب الصحفي محمود الحرشاني غزير العطاء ومصمم على مزيد الإنجاب... لا يعرف الكلل، ولا يحوقه الفتور والاسترخاء... فبعيد صدور كتابه «مذكرات صحفي في الوطن العربي» ازدان فراشه الفكري بمولود جديد شقيق للأول سماه البحث عن فكرة وهو عبارة عن مجموعة من الحوارات مع عدد من أهل الثقافة والفن.
كتاب متوسط الحجم، عدد صفحاته 110، منشورات مرآة الوسط، أهداه الكاتب إلى المثقفين والفناين والى روح والده صالح في ذكرى وفاته الأولى.
يقول محمود الحرشاني عن كتابه في آخر فقرة من الكلمة الأولى: «إن هذا الكتاب هو رحلة مع أفكار وآراء عدد من كبار المثقفين العرب الذين أخلصوا للعمل الثقافي والأدب والفن العربي بما ارتفعت به مكانتهم الأدبية والثقافية».
حاور الحرشاني في هذا الكتاب أعلاما من أهل الثقافة والأدب والسياسة والفن والإعلام من بينهم؛ الشاذلي القليبي الأمين العام السابق للجامعة العربية، عبد القادر بلحاج نصر الكاتب والروائي التونسي المعروف، الطيب صالح الروائي السوداني صاحب موسم الهجرة إلى الشمال، محمد جابر الانصاري مفكر عربي، نور الشريف الفنان المصري، فدوى طوقان الشاعرة الفلسطينية، مصطفى ناصف ناقد مصري، ايزابيلا كاميرا دافليتو مستعربة ايطالية، جورج شكور شاعر لبناني، محمد مصمولي كاتب إعلامي تونسي وآمال زكي الدرة... ألخ
وهكذا شكل الكاتب بفسيفسائه معالم البيت الثقافي متناولا شتى ألوان الفن والفكر طارحا مواضيع هامة وخطيرة تتعلق بقضايا ومشاغل وطموحات الإنسان العربي.
ففي ميدان الثقافة ناقش المشكلات التالية:
مستقبل الثقافة في تونس ، دور المؤسسات الاقتصادية في تنشيط الحياة الثقافية والأدبية، دور المثقف العربي في ضوء التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، العوائق التي تحول دون تطوير المجتمع العربي، رسالة النقد وإسناد الجوائز في التقدم بالحركة النقدية.
وفي المسائل الإعلامية تناول شؤون وظيفة الفضائيات ودور وسائل الإعلام في التنوير وتثقيف المشاهد العربي، حرية الإبداع، النظام الإعلامي العربي.
وفي مسار العولمة وما تقتضيه مشارب المثقفين من تواجدهم وتسجيل حضورهم اهتم بموضوع رسالة المثقف في زمن العولمة، حوار الحضارات، دور الترجمة في تقديم صور العرب إلى الآخر.
وفي مجال الأدب أثار أهم القضايا التي تشغل بال المبدع في تونس والبلاد العربية مثل الكتاب التونسي ودور وسائل الإعلام، آليات التعريف بالكاتب التونسي، الشعر وتوظيف التراث، مشروع كتاب في جريدة، المسألة التربوية والبرامج القادرة على صيانة عقل عربي جديد.
وبما أن هذه المواضيع الحيوية لا يمكن أن تغيب عن الحياة السياسية ففي الكتاب أثارة لأمهات القضايا التي تؤرقنا ولها تأثير مباشر على كياننا ومستقبلنا مثل قضية الشرق الأوسط ومستقبل العمل العربي المشترك والتاريخ العربي والتعاطف مع القضية الفلسطينية والعرب بين النظرة الموضوعية والاستشرافية، ولم يغفل الكاتب عن مساءلات أخرى تتعلق بالسينما والمسرح وإقامة المهرجانات والمحافل الأدبية والفنية ورصد الجوائز التشجيعية لتكريم المبدعين ودفعهم لمواصلة العطاء.
من خلال هذا العرض والمواضيع الضافية نستشف أن محمود الحرشاني قد توغل بعمق في القضايا الجوهرية المطروحة في كتابه بالتزام تام يعي دور الصحفي المسؤول والمدرك الواعي في إحضار اسئلته بدون خلل في موازناتـها مع التسلح بالجرأة والصراحة التامة.... فهذا الكتاب هو محاولة جادة لملاحقة رموز في الأدب والفكر والفن والإعلام والسياسة من بين الذين ذاع صيتهم في الوطن العربي وهم كثر مما يثقل مهمة الكاتب لمزيد الرصد واللهاث وراء المبدعين ... جاء بأسلوب جيد واختيار دقيق لنوعية الأسئلة التي تناسب صفة ضيوفه من أجل استدراجهم للتعبير بأمانة عن مضامين المواضيع المتحدث عنها بما تتطلبه من استدلال وكشوف وشروح تفصيلية، متحاشيا إلقاء الأسئلة الكلاسيكية المعبرة عن التفاهة واستهجان القارئ.
ولقد عودنا – محمود الحرشاني – بمثل هذه الأعمال ذات المعايير المعتبرة والتي تؤدي وظائفها في سبيل تثقيف المتابع للكاتب وإسداء الخبر والمعلومة بأسلوب أدبي سلس يعتمد الفهم والوضوح والمكاشفة، وبلغه تتقلد الصفاء والمتانة، وباستجوابات منتقاة تصب جميعا في اهتمام القارئ العربي، ومنتزعة من مواقف ورؤى فكرية وفنية لإعلام ومشاهير مشهود لهم في حقل الفن والأدب.
وقد افلح الحرشاني في الإمساك بناحية أطروحاته موفقا بين ما تحتويه من مضامين وما تتسم به من مستوى فني وومضات إبداعية لا تخلو من الروعة... ولعله أراد أن يؤكد للجميع وللذين يرتابون أحيانا في نوعية مثل هذه الأعمال إصراره على تأثيث كتابه بصور وموثقات تدعم كل واحدة منها المشهد الذي يضم صاحب الكتاب بضيفه مع التنصيص على المكان والزمان وكل صورة فوتوغرافية لها أكثر من جلالة ومعنى، وهي تعبر عن مصداقية الكاتب التي لا غبار عليها حول جدية عمله من حيث المواجهة الحية والمباشرة لضيوفه، عكس ما يتوخاه البعض الذين تعودوا الخداع والمغالطة بإعداد حوارات ميتة وفاقدة لكل بريق يصنعونـها بأنفسهم على لسان الغير باتفاق معهم أو تكليف أصحابـها بإعدادها من طرفهم من قبيل سؤال وجواب وهكذا تصبح هذه الأساليب ضربا من العبث والابتذال وخيانة الطابع الوظيفي للعمل.
أما من ناحية الإضافة في هذا الانجاز فقد قدم –محمود الحرشاني- بذكاء واستنارة بطاقة تعريف موجزة تلقى الضوء لمساعدة القارئ على معرفة الضيف والاقتراب منه أكثر لملامسته واكتشاف مسيرته الإبداعية وجوانب هامة من حياته.
كذلك فان هذه الحوارات واللقاءات التي أجراها الكاتب وأوردها في كتابه أشار إلى الأسباب والظروف التي عقدت فيها والى المجلات والجرائد التي تبنت نشرها في تونس والوطن العربي، فإضافة إلى جديتها وقيمتها لم تقدم من أجل غرض تأليف كتاب يدعم أرصدة الكاتب في هذا المضمار وإنما هي التي دعته لذلك لجمعها وتكوين علاقة عضوية لها. فهذا الكاتب القناص لا يترك فرصة تفرط من بين يديه ما دامت المناسبات تتاح له وتسنح لإجراء لقاءات بالمبدعين والتحاور معهم قد لا تعاد ولا تتكرر... وهذه الصفات الحميدة التي يتميز بها – محمود الحرشاني- تحقق له مزيدا من النجاحات والتميز- فقد استطاع أن يمتلك الثقة المتبادلة بينه وبين المتعاملين معه بفضل ترفعه عن المساءلات الهابطة الغائصة في الاسفاف والمشاغبة والتفاهة.
إن كتاب «البحث عن فكرة» هو في نظري تأصيل لنهج ملتزم بأهم القضايا المعبرة في شؤون واقعنا المعاصر والمستقبل بشتى مشاربه وهمومه، بطرح مستنير واستقصاء لأجوبة شافية ذات رؤى وأبعاد يتميز أصحابـها بفكر استشرافي ووجهات نظر موضوعية ومن خلال عنوان الكتاب فإنني اعتقد انه سيجلب لصاحبه مزيدا من العناء وكثيرا من العذاب في سبيل دوام الصيرورة وطول الرحلة – للبحث عن فكرة – ولكن أتعاب هذا البحث لذيذة وتجلب لصاحبها وللمتتبعين لكتاباته سعاد وارفة لا مثيل لها.
وختاما فان هذا الكتاب الواعد هو بداية وليس نـهاية لعمل كبير مازلنا ننتظره من –محمود الحرشاني- وهو القادر على إيقاد مصابيحه مساهمة منه لإضاءة ي شماء الأدب والإعلام.

ان هذا الكتاب هو فعلا كتاب قيم لأنه يحتوي على مجموعة حوارات مهمة مع نجوم الفن والثقافة والعالم العربي


ايناس